تمهيـــد :
إن من خير ما تسعد به الأمم وتهنأ به حياة الشعوب ، أن يتولى قيادتها رجال صالحون ، مصلحون ، تتوافر فيهم صفاة القيادة الحكيمة ، الفطرية منها والمكتسبة ، يقدرون على تحديد الأهداف والغايات ، ويُحسنون الأخذ بزمام الأسباب والوسائل وصولاً إلى هذه الأهداف وبلوغاً لتلك الغايات .
وتختلف الأهداف والغايات من أمة إلى أخرى .. متأثرة بأصولها وتراثها ، وقيمها ومبادئها، وعقائدها وآمالها، ثم بإمكاناتها ومقدراتها، ومواردها واحتياجاتها، ثم بمدى حيوية الأمة وقدراتها على البذل والعطاء ، والتطور والارتقاء .
ولاشك أن القيادة الحكيمة هي التي تكون قادرة على حسن إدارة كل هذه العناصر لاستخلاص أسمى الأهداف ورسم أفضل الوسائل ، وتنظيم المسيرة وتوجيهها لخير المواطنين في حاضرهم ومستقبلهم .
ومهما تنوعت الأهداف واختلفت الوسائل من أمة إلى أخرى فإن هناك هدفاً عاماً يسعى الجميع إليه ، وهو تحقيق أعلى مستوى ممكن من التطور الحضاري ، والحفاظ على ما يتحقق منه من إنجازات ومكاسب .
ولقد افتقد شعب الجزيرة العربية – لقرون عدة – هذا الهدف العام ، ذلك أن هذا الشعب المتمثل في القبائل العربية التي وحدتها عقيدة الإسلام ، وألفت بين قلوبها، وخرجت بها من نطاق البداوة والتفرقة إلى الآفاق العالمية ، التي أقامت فيها دولة الإسلام الموحدة الكبرى إبان عهد الخلفاء الراشدين ، والدولة الأموية ، والخلافة العباسية ... عادت مرة أخرى إلى مظاهر التفرق والبداوة ، وخاصة في المناطق التي بعدت عن سيطرة الدويلات التي انقسمت إليها الدولة العباسية ، ثم خرجت عن اهتمامات الخلافة العثمانية ، ومنها منطقة نجد والمناطق الشرقية والجنوبية من الجزيرة ، ونجم عن ذلك ابتعاد هذه المناطق تدريجياً عن ركب الحضارات المعاصرة ، وعودة كثير منها إلى النزاعات القبلية والعادات الجاهلية ، فاختل الأمن وانتشرت غارات القبائل والقرى بعضها على بعض ، وخبت جذوة الإيمان وقيم الإسلام في كثير من الضمائر والنفوس .
وكم تطلعت هذه الأمة إلى القيادة الصالحة التي تضع حداً لتفرقها وتشتتها ، وتستعيد خصائصها ومقوماتها ، وتتخلص من جديد نبيل غاياتها وطموحاتها لتحتل مكانها اللائق في موكب الحضارة المعاصر .
وتحقق الأمل في تحديد الطريق ، إنه توحيد الجزيرة ، وعلى ركائز من دين الله الحق ، المتمثل في التوحيد الخالص والشرعيـــة الصحيحـة التي بينها كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله e وكما عرفها السلف الصالح .
وحمل اللواء على هذا الطريق ، الدولة السعودية بمراحلها الأولى والثانية والمعاصرة ، وبذلت على الطريق تضحيات جسيمة ، وفاضت أرواح كثيرة ، وتعرضت المسيرة لألوان من التعثر والشدائد ، حتى تم لها – بعون الله ثم بالعزائم الصادقة – تذليل كل العقبات ، واستكملت توحيد أنحاء البلاد وجمع الأمة على كلمة سواء ، بقيادة المجاهد الفذ المغفور له الملك عبدالعزيز .
وفي ظل وحدة الدولة ، واستقرار أركانها ، وبدء تشييد بنيتها الأساسية وإقامة هياكلها الإدارية ، تابع أبناؤه من بعده المسيرة : الملك سعود ، والملك فيصل ، والملك خالد – رحمهم الله – ثم حمل اللواء في عام 1402هـ الملك فهد بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين .
ولد الملك فهد بمدينة الرياض عام 1340هـ ونشأ في بيئة صالحة يتعهدها ويحدوها والده المجاهد العظيم طيب الله ثراءه ، وتلقى علومه في مدرسة الملك عبدالعزيز ، ولما بلغ أشده شارك الأمير في العديد من الوفود التي مثلت المملكة في الخارج ، ثم أسندت إليه وزارة المعارف عند إنشائها عام 1373هـ ، وقادها عشر سنوات ، فنشر المدارس في أنحاء المملكة ، وطور التعليم بأنواعه ، ووضع القاعدة الأساسية لانطلاقه تعليمية وثقافية شاملة في البلاد .
ثم تولى سموه وزارة الداخلية عام 1382هـ ، وفي عهد الملك فيصل عين عام 1387هـ نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء إضافة إلى وزارة الداخلية ، وقلده الملك فيصل وشاح الملك عبدالعزيز عام 1392هـ .
وعندما تولى الملك خالد الحكم عام 1395هـ/1975م، بويع الأمير فهد بن عبدالعزيز ولياً للعهد ، فنهض بكثير من مهام الدولة وأعبائها .
وهكذا تمرس الأمير فهـــد بن عبدالعزيز على شــــؤون الحكم في المواقــع الفاعلة ما يزيد على ثلاثين عاماً ، اتسمت كلها بالنجاح والسياسة الحكيمة والتطوير والتقدم .
وقد تابع الأمير فهد الإشراف على تنفيذ خطط التنمية الخمسية للدولة منذ أن بدأت في عام 1390هـ/1970م.
وعلى أثر وفاة أخيه الملك خالد – رحمه الله – بويع الأمير فهد بالإجماع ملكاً على البلاد في 21 من شعبان 1402هـ/13 يونيه 1982م ، واستقبلت البلاد مرحلة تهيأت لها أسباب النهضة الشاملة والازدهار والرخاء ، فقد كانت الخطط الخمسية للتنمية قد استكملت مرحلتين وبدأت المرحلة الثالثة ، وكان نقل الوزارات إلى العاصمة الرياض قد تم ، وكانت الرياض تواصل النمو المطرد حتى بلغ سكانها نحو 1.5 مليون نسمة ، وتطور نطاق المدينة حتى بلغ نحو 1400 كم2 متجاوزاً ما وضع له من مخططات وتقديرات .
من هذه الآفاق الممتدة والقواعد الراسخة بدأ عهد انطلاق التنمية الشاملة ، واستكمال البناء الحضاري على أسس راسخة .
وينبغي أن نلحظ مما سبق أن الإنجازات الحضارية لخادم الحرمين الشريفين لم تبدأ من يوم توليه حكم البلاد ، وإنما بدأت من قبل ، منذ أسندت إليه المهام الكبرى في حياة والده ، ثم توليه وزارة المعارف ، ثم الداخلية ، ثم نيابة رئيس مجلس الوزراء ، ثم ولاية العهد ، ثم تمتد بعد توليه الحكم ... لتصل مدة المشاركة في قيادة البلاد وتنميتها والارتقاء بها إلى ما يقارب نصف قرن ، حتى الآن .